سورة الكهف - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


{هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)}
قوله تعالى: {هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} اختلف في العامل في قوله: {هُنالِكَ} وهو ظرف، فقيل: العامل فيه {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ} ولا كان هنالك، أي ما نصر ولا انتصر هنالك، أي لما أصابه من العذاب.
وقيل: تم الكلام عند قوله: {مُنْتَصِراً}. والعامل في قوله: {هُنالِكَ}: {الْوَلايَةُ}. وتقديره على التقديم والتأخير: الولاية لله الحق هنالك، أي في القيامة. وقرأ أبو عمرو والكسائي {الحق} بالرفع نعتا للولاية. وقرأ أهل المدينة وحمزة {الْحَقِّ} بالخفض نعتا لله عز وجل، والتقدير: لله ذى الحق. قال الزجاج: ويجوز {الحق} بالنصب على المصدر والتوكيد، كما تقول: هذا لك حقا. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي {الولاية} بكسر الواو، الباقون بفتحها، وهما بمعنى واحد كالرضاعة والرضاعة.
وقيل: الولاية بالفتح من الموالاة، كقوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}. {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا}. وبالكسر يعني السلطان والقدرة والامارة، كقوله: {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} أي له الملك والحكم يومئذ، أي لا يرد أمره إلى أحد، والملك في كل وقت لله ولكن تزول الدعاوى والتوهمات يوم القيامة.
وقال أبو عبيد: إنها بفتح الواو للخالق، وبكسرها للمخلوق. {هُوَ خَيْرٌ ثَواباً} أي الله خير ثوابا في الدنيا والآخرة لمن آمن به، وليس ثم غير يرجى منه، ولكنه أراد في ظن الجهال، أي هو خير من يرجى. {وَخَيْرٌ عُقْباً} قرأ عاصم والأعمش وحمزة ويحيى {عُقْباً} ساكنة القاف، الباقون بضمها، وهما بمعنى واحد، أي هو خير عاقبة لمن رجاه وآمن به. يقال: هذا عاقبة أمر فلان وعقباه وعقبه، أي آخره.


{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45)}
قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا} أي صف لهؤلاء المتكبرين الذين سألوك طرد فقواء المؤمنين مثل الحياة الدنيا، أي شبهها. {كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ} أي بالماء. {نَباتُ الْأَرْضِ} حتى استوى.
وقيل: إن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء، لان النبات إنما يختلط ويكثر بالمطر. وقد تقدم هذا المعنى في يونس مبينا. وقالت الحكماء: إنما شبه تعالى الدنيا بالماء لان الماء لا يستقر في موضع، كذلك الدنيا لا تبقى على واحد، ولان الماء لا يستقيم على حالة واحدة كذلك الدنيا، ولان الماء لا يبقى ويذهب كذلك الدنيا تفنى، ولان الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها، ولان الماء إذا كان بقدر كان نافعا منبتا، وإذا جاوز المقدار كان ضارا مهلكا، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر. وفى حديث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له رجل: يا رسول الله، إنى أريد أن أكون من الفائزين، قال: {ذر الدنيا وخذ منها كالماء الراكد فإن القليل منها يكفى والكثير منها يطغى}. وفى صحيح مسلم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما أتاه». {فَأَصْبَحَ} أي النبات {هَشِيماً} أي متكسرا من اليبس متفتتا، يعني بانقطاع الماء عنه، فحذف ذلك إيجازا لدلالة الكلام عليه. والهشم: كسر الشيء اليابس. والهشيم من النبات اليابس المتكسر، والشجرة البالية يأخذها الحاطب كيف يشاء. ومنه قولهم: ما فلان إلا هشيمة كرم، إذا كان سمحا. ورجل هشيم: ضعيف البدن. وتهشم عليه فلان إذا تعطف. واهتشم ما في ضرع الناقة إذا احتلبه. ويقال: هشم الثريد، ومنه سمى هاشم بن عبد مناف واسمه عمرو، وفية يقول عبد الله بن الزبعرى:
عمرو العلا هشم الثريد لقومه *** ورجال مكة مسنتون عجاف
وكان سبب ذلك أن قريشا أصابتهم سنون ذهبن بالأموال فخرج هاشم إلى الشام فأمر بخبز كثير فخبز، فحمله في الغرائر على الإبل حتى وافى مكة، وهشم ذلك الخبز، يعني كسره وثردة، ونحر تلك الإبل، ثم أمر الطهاة فطبخوا، ثم كفأ القدور على الجفان فأشبع أهل مكة، فكان ذلك أول الحباء بعد السنة التي أصابتهم، فسمى بذلك هاشما. {تَذْرُوهُ الرِّياحُ} أي تفرقه، قاله أبو عبيدة. ابن قتيبة: تنسفه. ابن كيسان: تذهب به وتجيء. ابن عباس: تديره، والمعنى متقارب. وقرأ طلحة بن مصرف {تذريه الريح}. قال الكسائي: وفى قراءة عبد الله {تذريه}. يقال: ذرته الريح تذروه ذروا وتذريه ذريا وأذريه تذريه إذراء إذا طارت به. وحكى الفراء: أذريت الرجل عن فرسه أي قلبته. وأنشد سيبويه والفراء:
فقلت له صوب ولا تجهدنه *** فيذرك من أخرى القطاة فتزلق
قوله تعالى: {وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} من الإنشاء والإفناء والأحياء، سبحانه.


{الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46)}
قوله تعالى: {الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا} ويجوز {زينتا} وهو خبر الابتداء في التثنية والافراد. وإنما كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا لان في المال جمالا ونفعا، وفى البنين قوة ودفعا، فصارا زينة الحياة الدنيا، لكن معقرينة الصفة للمال والبنين، لان المعنى: المال والبنون زينة هذه الحياة المحتقر فلا تتبعوها نفوسكم. وهو رد على عيينة بن حصن وأمثاله لما افتخروا بالغنى والشرف، فأخبر تعالى أن ما كان من زينة الحياة الدنيا فهو غرور يمر ولا يبقى، كالهشيم حين ذرته الريح، إنما يبقى ما كان من زاد القبر وعدد الآخرة. وكان يقال: لا تعقد قلبك مع المال لأنه في ذاهب، ولا مع النساء لأنها اليوم معك وغدا مع غيرك، ولا مع السلطان لأنه اليوم لك وغدا لغيرك. ويكفى قي هذا قول الله تعالى: {أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} وقال تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ}. قوله تعالى: {وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ} أي ما يأتي به سلمان وصهيب وفقراء المسلمين من الطاعات. {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً} أي أفضل. {وَخَيْرٌ أَمَلًا} أي أفضل من ذى المال والبنين دون عمل صالح، وليس في زينة الدنيا خير، ولكنه خرج مخرج قوله: {أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا}.
وقيل: خير في التحقيق مما يظنه الجهال أنه خير في ظنهم. واختلف العلماء في {الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ}، فقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة وعمرو ابن شرحبيل: هي الصلوات الخمس. وعن ابن عباس أيضا: أنها كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة. وقاله ابن زيد ورجحه الطبري. وهو الصحيح إن شاء الله، لان كل ما بقي ثوابه جاز أن يقال له هذا.
وقال لي رضي الله عنه: الحرث حرثان فحرث الدنيا المال والبنون، وحرث الآخرة الباقيات الصالحات، وقد يجمعهن الله تعالى لأقوام.
وقال الجمهور: هي الكلمات المأثور فضلها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم. خرجه مالك في موطئة عن عمارة بن صياد عن سعيد بن المسيب أنه سمعه يقول في الباقيات الصالحات: إنها قول العبد الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. أسنده النسائي عن أبى سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «استكثروا من الباقيات الصالحات قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: المسألة. قيل وما هي يا رسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا باله». صححه أبو محمد عبد الحق رحمه الله.
وروى قتادة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ غصنا فخرطه حتى سقط ورقه وقال: «إن المسلم إذا قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر تحاتت خطاياه كما تحات هذا خذهن إليك أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن فإنهن من كنوز الجنة وصفايا الكلام وهن الباقيات الصالحات». ذكره الثعلبي، وخرجه ابن ماجه بمعناه من حديث أبى الدرداء قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «عليك بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإنهن يعني يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها». وأخرجه الترمذي من حديث الأعمش عن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بشجرة يابسة الورقة فضربها بعصاه فتناثر الورق فقال: «إن الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر لتساقط من ذنوب العبد كما تساقط ورق هذه الشجرة». قال: هذا حديث غريب ولا نعرف للأعمش سماعا من أنس، ولا أنه قد رآه ونظر إليه. وخرج الترمذي أيضا عن ابن مسعود قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسرى بى فقال يا محمد أقرئ أمتك منى السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» قال: حديث حسن غريب، خرجه الماوردي بمعناه. وفية- فقلت: «ما غراس الجنة؟ قال: لا حول ولا قوة إلا بالله». وخرج ابن ماجه عن أبى هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر به وهو يغرس غرسا فقال: «يا أبا هريرة ما الذي تغرس»؟ قلت غراسا. قال: «ألا أدلك على غراس خير من هذا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر يغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة». وقد قيل: إن الباقيات الصالحات هي النيات والهمات، لان بها تقبل الأعمال وترفع، قال الحسن.
وقال عبيد بن عمير: هن البنات، يدل عليه أوائل، الآية، قال الله تعالى: {الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا} ثم قال: {وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ} يعني البنات الصالحات هن عند الله لآبائهن خير ثوابا، وخير أملا في الآخرة لمن أحسن إليهن. يدل عليه ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت على امرأة مسكينة... الحديث، وقد ذكرناه في سورة النحل في قوله: {يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ} الآية.
وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لقد رأيت رجلا من أمتي أمر به إلى النار فتعلق به بناته وجعلن يصرخن ويقلن رب إنه كان يحسن إلينا في الدنيا فرحمه الله بهن».
وقال قتادة في قوله تعالى: {فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} قال: أبدلهما منه ابنة فتزوجها نبى فولدت له اثنى عشر غلاما كلهم أنبياء.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14